لماذا بحث رام الله؟
نظرة سريعة على التوسّع العمرانيّ الأفقيّ والعموديّ السريع لمدينة رام الله، و كذلك التزايد في عدد سكّانها (هي ومدينة البيرة، المدينة التوأم، وامتدادهما في بيتونيا)، يكشفان أنّ المحرّك لهذا النموّ تمركز في مقرّات مؤسّسات السلطة الفلسطينيّة في المدينة، وبحث الرأسمال الفلسطينيّ عن مجالات ربح سريعة. وواقع أنّ رام الله نمت وتنمو في سياق هيمنة نظام استعماريّ استيطانيّ شموليّ منحَ المجال لنموّ رام الله كبديل عن مدينة القدس كعاصمة للدولة الفلسطينيّة المنشودة.
رام الله تعيش طفرة عمرانيّة وخدماتيّة وترفيهيّة وتجاريّة رغم غياب أيّ من مقوّمات الدولة والسيادة، ورغم محاصرتها بالمستوطنات والحواجز العسكريّة واعتياد اجتياحها من وحدات من الجيش الإسرائيليّ لتفتّش دون قيود ما تريد من الأماكن والمساكن، ولتعتقل من تريد من مناضلين وكوادر وقيادات سياسيّة، دون مقاومة من السلطة.
السلطة الفلسطينيّة هي داية رام الله -البيرة كمركز حضريّ يحتضن طبقة وسطى واسعة
في العام 1944، قُدّر عدد سكّان رام الله بنحو 6,300 نسمة، وقُدّر في العام 1952 بنحو 13,500، ثلثاهم من اللاجئين. في العام 1997، بلغ عدد سكّان المدينة -حسب معطيات الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ- 17,851، وفي العام 2007 كان سكّانها -حسب المصدر نفسه- 27,092 نسمة، وسكّان مدينة البيرة 37,690، وسكّان مدينة بيتونيا 19,496، أي ما مجموعه 84,278 نسمة للمجمّع الحضريّ الثلاثيّ. وقُدّر عدد سكّان رام الله في العام 2015 بِـ 34,173 نسمة، وعدد سكّان المجمّع الحضريّ الثلاثيّ بـِ 106,305.
الأهمّ من عدد سكّان المدينة هو تكوينهم الاجتماعيّ والمهنيّ والثقافيّ والدينيّ القائم على التنوُّع الذي اتّسع كثيرًا بعد اتّخاذ السلطة الفلسطينيّة رام الله مقرًّا لمؤسّساتها، وزاد من حمايتها عن محرّكات العلاقات الاجتماعيّة العائليّة كما هو حال مدن أخرى (كالخليل ونابلس). ومن هنا، فإنّ فهم واقع رام الله الراهن يتطلّب وضعه في سياق اختطاف إسرائيل للمدن الفلسطينيّة الساحليّة النامية وتطهيرها فلسطينيًّا، وتقسيم المدينة، ومحافظة المدن الفلسطينيّة في الضفّة وغزّة على تكويناتها العائليّة خلال فترة الحكْمَيْن: الأردنيّ للضفّة الغربيّة، والمصريّ لقِطاع غزّة .
مع العام 1948، فقد الفلسطينيّون مدنهم الرئيسيّة، وفقدت القدس موقعها كعاصمة ثقافيّة ودينيّة ومركز موحِّد للشعب الفلسطينيّ، وبات الشعب الفلسطينيّ بدون تشكيلة اجتماعيّة-اقتصاديّة سياسيّة موحّدة بعد تعرُّضه للتطهير العرقيّ، ومع تصاعد وتيرة الهجرة من مدن الضفّة الغربيّة -في الخمسينيّات وحتّى بداية عقد التسعينيّات- باتّجاه العاصمة الأردنيّة وعواصم دول النفط العربيّة وغيرها. بعد حرب حزيران في العام 1967، قامت إسرائيل بضمّ القدس الشرقيّة وأخذت في عزلها عن امتدادها الفلسطينيّ العربيّ، وشرعت في زراعة الضفّة الغربيّة، بصورة رئيسيّة، بالمستعمرات الإسرائيلية اليهوديّة، وقامت بعد الانتفاضة الثانية ببناء جدارها العنصريّ العازل.
اتّخاذ السلطة الفلسطينيّة (عام 1994) من رام الله مقرًّا لمؤسّساتها وهيئاتها المركزيّة كان العاملَ الرئيسيّ الذي منح المدينة سمات خاصّة. العوامل الأخرى التي تُسرد -في المعتاد- لتفسير صعود رام الله العمرانيّ السريع (كالهجرة إلى الولايات المتّحدة التي وفّرت إمكانيّات الاستثمار في البناء وغيره في المدينة من أهاليها المهاجرين، والحضور المسيحيّ فيها، وتوافر مدارس الإرساليّات الدينيّة، واستقبالها أعدادًا من اللاجئين في العام 1948، وموقعها كبلدة سياحيّة خلال الحكم الأردنيّ) هي ذات أهمّيّة لكنّها لا تخصّ رام الله حصرًا، بل نجدها جميعها في مدينة بيت لحم (بامتدادها مع بيت جالا وبيت ساحور)، بالإضافة إلى وفرة المواقع الدينيّة والأثريّة في الأخيرة وقربها الشديد من القدس، ولذا فالعامل الحاسم في الطفرة العمرانيّة والخدماتيّة في رام الله هو اتّخاذها مقرًّا للسلطة الفلسطينيّة.
اتّخاذ رام الله مقرًّا للسلطة الفلسطينيّة جعل منها موقعًا محبَّذًا لتمركز مقرّات المؤسّسات الأهليّة والتنظيمات السياسيّة والهيئات الدوليّة والمنظّمات غير الحكوميّة، وكذلك مركزًا للنشاط الاقتصاديّ (الماليّ) الجديد (بنوك، واتّصالات وتأمين، ودعاية وإعلان وصحافة وخدمات فندقيّة وترفيهيّة، ومتاجر متنوّعة). كلّ هذا جعل الطبقة الوسطى الحديثة (التي تملك رأسمالًا ثقافيًّا -تخصُّصيًّا وتعليميًّا وإداريًّا) المكوِّنَ الأكبر لسكّان رام الله، وجعل عدد الوافدين إليها لمتابعة أشغالهم المختلفة من القرى والبلدات المحيطة يربو على ضِعفَيْ عدد سكّانها.
اتّساع مظاهر التمايز الاجتماعيّ والمكانيّ والمعماريّ
مع نموّ المظاهر الحضريّة في المدينة، اتّسعت مظاهر الثروة والفقر عبْر آليّات تراكم الرأسمال الماليّ. وجدت الأُسَر الميسورة لنفسها مجالًا للإقامة في أحياء محدّدة من المدينة؛ وشيّدت لنفسها مطاعمها ومقاهيها وفنادقها وأنديتها الخاصّة. وتتكوّن الفئة الميسورة من شرائح من الفئة البيروقراطيّة العليا للسلطة، ومن مديري أكبر شركات القِطاع الخاصّ ومن أصحاب رؤوس الأموال المحلّيّين والوافدين والناشئين الجدد. ما جرى ويجري يتمثّل في هندسة المكان اجتماعيًّا عبْر عمليّات شراء وبيع الأراضي والاستثمار في العقارات السكنيّة والتجاريّة والمتعدّدة الاستخدام وتشييد خدمات متنوّعة تتّفق مع ذوق وحاجات الطبقة الوسطى، واحتلال الشرائح الوسطى والعليا من هذه الطبقة ومن أصحاب رؤوس الأموال مناطقَ بعينها ومساكنَ بعينها مسيّجة نائية عن مناطق وأحياء الفئات الاجتماعية الأفقر، كمدينة "روابي" وضَواحٍ مثل الريحان والياسمين والحيّ الدبلوماسيّ، وحيّ الصفا والريف وغيرها.
في دراسة المدن، لا بدّ من ألّا يقتصر الانتباه على الهُويّة الطبقيّة للحيّز المكانيّ، بل ينبغي أن يتجاوزها إلى هُويّته "الجندريّة" (الجنوسيّة). فعلى سبيل المثال، تغيب المرأة عن المقاهي الشعبيّة، وتَحضر في الكوفي شوب؛ وذلك أنّ الأخير يستوعب المرأة بسبب هُويّته الطبقيّة والثقافيّة. كما لا بد من ملاحظة أنّ التوسّع الهائل في بناء الشقق السكنيّة في بنايات متعدّدة الطوابق فرض قيودًا على حركة الأطفال وربّات البيوت (باتت الشقق أقرب إلى علب السردين -على حدّ وصف البعض). وهي قيود على المرأة منحتها شرعيّةً الأيديولوجياتُ الدينيّة الأصوليّة التي تفصل بين عالَم المرأة وعالَم الرجل.
على أرصفة شوارع رام الله، تجد كلَّ أشكال الباعة المتجوّلين يعرضون ما قد يحتاجه عابر السبيل المحدود الدخل. فيها تجد المطاعم الشعبيّة ذات الأسعار المنخفضة (حمّص وفول وفلافل)، وكذلك مطاعم الوجبات السريعة، ومطاعم تتجاوز أسعارها أسعار مطاعم مدن أوربيّة، وتجد أسماء محلّيّة وعربيّة وأجنبية. رام الله (ومعها البيرة) ليست مكان إقامة شرائح من الطبقة الوسطى ورجال الأعمال فقط، ففيها أحياء فقيرة ومخيّمات كالأمعري، ومخيّم حيّ قدورة ومخيّم الجلزون، وقلنديا، ورام التحتى، بالإضافة إلى أمّ الشرايط حيث تقيم شرائح دنيا من الطبقة الوسطى.
رام الله؛ الطفرة العمرانيّة دليل حيويّة أم مؤشّر "فقاعة"؟
يرى البعض أن ما يجري في رام الله لا يخرج عن كونه "فقاعة" لا بدّ من أن تنفجر، في حين يرى آخرون أنّ رام الله تسير على خطى مدن عربيّة كبيروت وعمّان ودُبيّ. وانفرد البعض الآخر برؤية أنّ ما يجرى في رام الله لا يخرج عن كونه ترجمات لأَجِنْدات سياسيّة تلتقي فيها مصالح قوى محلّيّة مع مصالح قوى إقليميّة ودوليّة متعدّدة.
في رام الله نُخَب تنشط عاملةً على إبراز رام الله مدينةً ليبراليّة تعدُّديّة عَلمانيّة وطنيّة ومُعَوْلَمة في آن. تحمل شوارعها أسماء شخصيّات فلسطينيّة من كلّ التجمّعات الفلسطينيّة ومختلف الاتّجاهات السياسيّة والانتماءات الدينيّة، إلى حدّ تعمُّد تسمية شارعين متقاطعين (على يافطة واحدة) بِاسمَيْنِ يحمل كلّ منهما دلالة معاكسة لدلالة الآخر؛ واحد باسْم إميل حبيبي (وهو روائيّ عَلمانيّ من عائلة مسيحيّة وكان عضوًا في الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ مدّة طويلة)، والآخر باسْم يحيى عيّاش (وهو من القيادات العسكريّة الأهمّ في "حماس" اغتالته إسرائيل في منتصف التسعينيّات).
في الوقت ذاته، يلاحَظ أنّ الرأسمال الخاصّ يميل إلى تسمية بناياته (معظمها للإسكان والبعض لمكاتب) بأسماء لا تنتمي إلى زمان فلسطينيّ أو مكان فلسطينيّيّ؛ فبعضها حملت أسماءً نحو: إسكان كوالالمبور؛ إسكان إندونيسيا؛ إسكان ماليزيا؛ إسكان إشبيلية؛ إسكان غرناطة. وبعضها حملت أسماءً نحو: رأس الناقورة؛ مشروع أنطاليا؛ أزمير. وثمّة أخرى حملت أسماءً نحو: مشروع صيدا؛ فاس؛ مكّة؛ القصرين؛ الرياض؛ البتراء؛ قصر أبو ظبي؛ قرطاج؛ جدّة؛ أغادير؛ دُبَيّ؛ جونية؛ الجزائر؛ سامرّاء...
رام الله المدنيّة الاستثناء
ترتّب على اتّخاذ السلطة الفلسطينيّة رام الله مقرًّا لها عددٌ من التحوّلات (المقصودة وغير المقصودة) يمكن إجمالها على النحو التالي:
أوّلًا، مع اتّفاق أوسلو عاد عشرات الآلاف من الفلسطينيّين الذين حملوا معهم خبرات وتجارب واختصاصات متنوّعة، غالبيّتهم العظمى خبرَتْ حياةَ مدن يغلب عليها الطابعُ العَلمانيّ (بيروت؛ دمشق؛ تونس؛ القاهرة)، أو درست في مدن (وتحديدًا في أوروبا الشرقيّة). ومع صعود قوى الإسلام السياسيّ خلال عقد التسعينيّات من القرن السابق، تراجع نفوذ القوى العَلمانّية واليساريّة في المجتمع الفلسطينيّ، وباتت حركة "فتح" العَلمانيّة تُجاري مفردات خطاب التيّار الإسلاميّ. لكن رام الله وفّرت حيّزًا للقوى العَلمانيّة للحفاظ على كيانها. ووفّر الصراع بين حركتَيْ "فتح" وَ "حماس" فرصة لأن تَطرح رام الله فرصة النأي بالنفس عن الصراع بين التنظيمين الأكبر، وأفشلت بلديّة المدينة محاولة قوى إسلاميّة تغيير اسم "رام الله" (بذريعة أنّها تتضمّن لفظة "الله").
ثانيًا، القيود الإسرائيليّة المفروضة على التوسّع العمرانيّ خارج مناطق "أ" وَ "ب" (20% من الضفّة الغربيّة)، وحاجة مؤسّسات السلطة والقِطاعين الخاصّ والأهليّ إلى مقرّات مختلفة وإلى أماكن سكن للموظّفين في هذه القِطاعات، أفضت إلى ارتفاع كبير في أسعار الأراضي وإلى اندفاع الرأسمال الخاصّ في الاستثمار في البناء، بحكم تدنّي أسعار الفائدة على رؤوس الأموال المودَعة في البنوك، والقيود على الاستثمار في الصناعة والزراعة. بتعبير آخر، لم يكن للمجتمعَيْن السياسيّ والمدنيّ تأثير يُذكر على القرارات الخاصّة بالتمدُّد العمرانيّ في المدينة وسِماته، فهذا تُرك للرأسمال الخاصّ ليقرّر هو بشأنه.
ثالثًا، نشأ مع نهوض مؤسّسات سلطة الحكم الذاتيّ الفلسطينيّة قِطاع خاصّ حديث، كما ازداد عدد المنظّمات غير الحكوميّة، وعدد الاختصاصيّين العاملين لحسابهم الخاصّ (أطبّاء؛ مهندسين؛ محامين؛ أطبّاء أسنان...). كذلك ترافق معه التزايد في عدد الجامعات والكلّيّات والمدارس الخاصّة بأساتذتها وموظّفيها. كلّ هذا أسهَمَ في توسيع حجم الطبقة الوسطى الجديدة من حيث أعدادها وحصّتها من مُجْمل القوى العاملة، وما يستدعيه هذا من خدمات تستجيب لأسلوب حياة هذه الطبقة ولذائقتها.
آخر المعطيات المسْحيّة لحجم الطبقة الوسطى الجديدة تشير إلى أنّها شكّلت في العام 2015 نحو 60% من القوى العاملة في المدينة (وبنِسَب مقاربة -وإن أدنى قليلًا- في البيرة). وتمتاز الطبقة الوسطى عن غيرها بما في ذلك عن البرجوازية الصغيرة (أصحاب رأس المال الصغير)-، ورجال الأعمال (رأس المال المتوسط والكبير)، وعن الطبقة لعاملة، باعتمادها على حيازة رأسمال ثقافيّ (مستوى متقدّم من التعليم والثقافة والتخصُّص) تجري مقايضته برأسمال مادّيّ (راتب؛ ريع؛ دخل) وبرأسمال اجتماعيّ (مكانة اجتماعية) وبرأسمال رمزيّ من خلال نمط استهلاك (شقق؛ سيّارات؛ تعليم أطفال؛ لبس...).
رابعًا، الميزة الأبرز لرام الله نجدها في تنوّع سكّانها من حيث الأصول الجغرافيّة (من غزّة، إلى شمال الضفّة وجنوبها ووسطها ومناطق الـ 1948، ومن فلسطينيّين عاشوا خارج فلسطين التاريخيّة)، ومن حيث تنوُّعها المهنيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والدينيّ. وهذا أمر تعتزّ به مؤسّسات المدنيّة الرسميّة والتمثيليّة. فهي تطرح نفسها كمدينة لجميع الفلسطينيّين (بغضّ النظر عن مكان ولادتهم)، وإلى حدّ كبير هي كذلك. كما تحرص هذه المؤسّسات على إبراز احترامها للتعدُّديّة والخصوصيّة الفرديّة، وهي إلى حدّ كبير كذلك حقًّا. رام الله مدينة تقدّم نفسها كحيّز يجمع بين المحلّيّ والإقليميّ والـمُعَوْلَم، وهي إلى حدّ ملموس كذلك، من حيث المظهر الاستهلاكيّ والخدماتيّ، ومن حيث أسماء الفنادق والمطاعم والمقاهي والمحلّات التجاريّة والشوارع والعمارات.
خامسًا، نجد في رام الله -على نحوٍ أوسع ممّا في غيرها- حيّزات عامّة عدّة للحِوار والنقاش المفتوح. وهي بهذا تحتضن سنويًّا العديد من المؤتمرات واللقاءات والندوات الدوريّة لمراكز بحثيّة وفكريّة وإستراتيجيّة. وباتت مكتباتها تستقبل مجلّات عربيّة عديدة تصدر في بيروت والقاهرة، كما أصبحت مقرًّا لإذاعات محلّيّة ومحطّات تلفزيونيّة متنوّعة. وهي حاضنة لمعارض فنّيّة وأمسيات شعريّة وروائيّة وعروض سينمائيّة (ينظَّم الكثير منها في متحف محمود درويش). وهي تقدّم نفسها كحاضنة للثقافة وفيها عدد غير قليل (قياسًا إلى تعداد السكّان) من المراكز الثقافيّة ومراكز البحث والمعارض الفنّيّة والمسارح ودور السينما. وفيها صروح للشهداء وللأسرى والمحرَّرين الفلسطينيّين -وقد أضيف هذا العام تمثال للمناضل نيلسون مانديلّا.
وفي هذا الصدد، من الجدير أن يشار إلى أنّ وجود أقلّيّة مسيحيّة في رام الله أسهم، إلى حدّ ما، في توسيع نطاق الحرّيّة الفرديّة في المدينة. وقد أسهم في ذلك أيضًاوجود السلطة الفلسطينيّة، التي تضع، حتّى اللحظة، مساحة فاصلة بينها وبين التيّار الإسلاميّ السلفيّ وتسعى للحفاظ على تراثها "العَلمانيّ" وَ "الليبراليّ" الذي احتضنته مؤسّسات منظّمة. كذلك أسهم تكوين المدينة السكّانيّ المتحرّر من التأثيرات العائليّة والعشائريّة في رفع درجة احترامها للتعدُّديّة.
سادسًا، الرأسمال الماليّ والعقاريّ المندفع وراء الربح السريع أدّى إلى تجريد مواقع عديدة في رام الله من قيمتها التاريخيّة والجماليّة لصالح مشاريع عقاريّة ربحيّة. هذا ما كان عند بناء مكاتب من عدّة طبقات مكان منتزه ومطعم البردوني في شارع يافا، وعند تجديد مبنى المقاطعة بشكل غيّر من معالمه السابقة التي حملت معاني وطنيّة (منها أنّها مكان إقامة ومحاصرة الرئيس الراحل عرفات). وما جرى من هدمٍ لمبانٍ ذات قيمة أثريّة لصالح تشييد عمارات متعدّدة الطبقات، واستخدامِ الواجهات الزجاجيّة بدل الحجر الفلسطينيّ تقليدًا للصرعة (الموضة) الرائجة في دول عربيّة.
رام الله والقيم الفردانيّة
قد ينطوي الرأي الذي اعتبر أنّ ما يجري في رام الله يبرز على نحوٍ مكثّف تأثير سياسات الليبراليّة الجديدة، قد ينطوي على درجة من الصحّة. وهو يلتقي مع الرأي الذي رأى في بروز شخصيّة "الموظّف" أحد أبرز تأثيرات ثقافة رجال الأعمال وبيروقراطيّة السلطة في تجمُّع رام الله -البيرة -بيتونيا. لكن العامل الأبرز يعود إلى تحوُّل الحركة السياسيّة الفلسطينيّة من حركة تحرّر وطنيّ إلى حركة بناء دولة على جزء من أرض فلسطين تحت شرط هيمنة دولة استعماريّة استيطانيّة.
تأثير تغلغل القيم الفردانيّة والاستهلاكيّة واضح تمامًا بفعل هيمنة اقتصاد ليبراليّ جديد على اقتصاد الضفّة والقِطاع. وهو ما يبرز في اندفاع نسبة عالية من الطبقة الوسطى للاستدانة من البنكيّة، حتّى إنّ أحد من التقى بهم الباحث وصف رام الله بأنّها "باتت مرهونة للبنوك"، وإحدى من تحاورت معهنّ حول المدينة قالت إنّ "‘‘روابي‘‘ تمثّل الرأسمال المكثّف، وجامعة بير زيت تمثّل الرأسمال الثقافيّ. وكلاهما نتاج أزمة"...
رام الله، كما قال محمود درويش، "مدينة تنمو على عجل"، لكن هذا ليس ما يقلق بقدر ما أنّها نمت وتنمو بدون رؤية وبشيء من الافتتان بالذات. فكَوْنها مدينة منفتحة وتعدُّديّة إلى حدّ ملموس يجب ألّا يلغي حقيقة أنّها مدينة تبالغ في تلبية ذائقة الطبقة الوسطى ورجال الأعمال، وهي طبقة مفتونة بالاستهلاك لا بالإنتاج. المدينة يسيّرها على نحوٍ شبه كلّيّ -تحت السيطرة الشاملة للدولة الاستعماريّة – الرأسمال الماليّ والعقاريّ الذي يخشى الكثيرون منّا أنّه يقودها إلى خارج المكان والزمان الفلسطينيَّيْن.
يكمن التحدّي الأكبر للمدنيّة في الجمع بين أن تكون مدينة تعدُّديّة ومنفتحة ومبدعة وأن تمارس الاشتباك مع النظام الاستعماريّ الاستيطانيّ العنصريّ، وفي إدراكها أنّ قيم الرأسماليّة الجشعة تتنافى مع قيم الحرّيّة المستندة إلى المساواة والتكافل والعدالة.
[يعاد نشره بالاتفاق مع "مجلة الدراسات الفلسطينية"]
هوامش:
- هذا المقال يستند إلى البحث التالي: جميل هلال، رام الله المدينة والحكاية، منشورات مركز الأبحاث الفلسطينيّ، منظّمة
التحرير الفلسطينيّة، رام الله، أيّار 2016.
- المقصود تقسيم مدينة القدس عام 1948 (بين شرقية وغريبة)، وتحويل، خلال فترة الحكم الأردن، عمان إلى عاصمة المملكة الأردنية وبالتالي تهميش القدس (اقتصاديا ومكانة)، والحافظ على الطابع "التقليدي" (العائلي والعشائي في كل من الخليل ونابلس.